خواطر..... جلسة محاكمة
جلسة محاكمة
-
الأوطان لا تنتهي آجالها ولا تموت، كل ما زادت عمرًا زاد شبابها وقوتها، وفلسطين يعني أن نخسر كل شيء مقابل الأرض لأنها الأغلى
الاسم: حنظلة الفلسطيني
رقم الهوية: 000000001
التهمة: عشق الوطن والدفاع عنه
الحكم: السجن مدى الحياة- الإبعاد القسري- الإعدام
تأجلت المحكمة مرة أخرى بسبب عدم البَتّ في الحكم، والخلاف الدائر بين القضاة عن العقاب الأمثل الذي لا بد من إنزاله بعاشق، أما حنظلة فلا يخفي وجهه لأنه يخجل من عشقه، بل لأنه لا يبالي بجلسات محاكمته، لا يبالي بقوانين القضاة، ولا يبالي بنوع العقاب الذي سيحل به فداءً لكرامة هذا الحب.
كثر المحامون حول حنظلة وكثرت معهم أدلة إدانته، يقفون واحدًا تلو الآخر يناقشون القاضي في قضية العاشق، ينتصبون ببدلات متأنقة وعلى صدورهم دبوس صغير لرمز العدالة، وخط المكوى مرسوم على ياقات قمصانهم الناصعة البياض، يظهرون بابتسامات تخالف وجوههم المتجهمة، ثم مرة أخرى تؤجل المحكمة لإعادة النظر في القضية.
لم تكن نكبة عام 1948م هي النكبة الوحيدة التي حلّت بالشعب الفلسطيني واصطبغت بهويته "النكبة الفلسطينية"؛ وإنما تزاوجت وتكاثرت، بل وأنجبت أبناء وحفدة قبل أن يحل عليها خريف الحياة وترمي بجسدها المثقل والممتلئ بالترهلات على ناصية العمر الذي بلغ بها إلى الرابع والسبعين عقدًا، هذه النكبة اصطبغت بالهوية الفلسطينية وصَبغته هو بصِبغة اللاجئ، المهاجر، الغريب في المنفى.
في الوقت الذي كانت تكبر فيه هذه النكبة كانت ذاكرة الفلسطيني تكبر لتتسع لهذه النكبة؛ كانت ذاكرة الفلسطيني أشبه بشجرة جذورها النكبة لكن أوراقها ثورة ومقاومة دائمة الخضرة، ورغم أن حبات ثمارها ليست دائمًا وافرة، ولكنها تسمن وتغني من جوع.
لا تعجب من شجرة أصولها نكبة أينعت وآتت أُكلها، لأنه الشعب الفلسطيني الذي عجز العالم كله عن حل لغزه، الشعب الذي يعشق الحياة كما يعشق الموت، توالت عليه النكبات وتوالى هو عليها بثورة، فانتفاضة، فمقاومة، فمواجهة، فهجوم، فإقدام؛ فهذه هي قوة الحق الذي يرسخ في قلبه، الحق الذي لا يعرف أحدًا المناداة به إلا من خُلق من أديم هذه الأرض، هذا الشعب سخيٌ حتى في الدفاع عن أرضه؛ فكل صاعٍ مقدم له على طبق من فضة يرده أصياعًا على أطباق من ذهب، النكبة تكبر والشجرة في ذاكرته تكبر وحب الوطن يكبر أكثر.
هذا الشعب لم يكن يومًا ولم يزل إلا عنوانًا للثورة ورمزًا للتضحية وحب الأرض، كانت نكبته تكبر وتتزاوج وتتكاثر، وهو أيضًا يكبر ويتزاوج ويتكاثر ويرضع أبناءه أن الحق ينص على أن هذه أرضه هو، يخبرهم بأنه سيعود حتمًا، وتَبَّت المعاهداتُ والاتفاقيات التي تناقض ما ينص عليه الحق؛ وكل قوانين العالم الباطلة تزهق أمام جرأته وعنفوانه في إظهار براءته.
كانت النكبة كبيرة في داخله، عجوز بعمرها الذي جاوز قرنًا من الزمان إلا ثلاثون عامًا، لكنها تصغره بكثير من الأعوام، فهو الشرش المتجذر بالزيتون والبرتقال، وهو العُمُر دائم النضرة والاخضرار كالزعتر والياسمين، كبيرة هي النكبة بعمرها وبمآسيها، وعلى الرغم من هذا لم تكبر في ذاكرة الفلسطيني، وكأن عمرها ساعة واحدة أو أقل.
أربع وسبعون عامًا ليست سادة، ولكنها مزيج من المكونات، تحول فيها مصطلح الوطن إلى خيمة وكرت تموين، أصبح الوطن فيها يعني الألم والمعاناة والتشرد رغم أنه كان من المفترض أن يعني "الوطن هو ألا يحدث ذلك كله".
الأوطان لا تنتهي آجالها ولا تموت، كل ما زادت عمرًا زاد شبابها وقوتها، وفلسطين يعني أن نخسر كل شيء مقابل الأرض لأنها الأغلى، فِلِسْ طِين يعني أن نُفلِس من كل شيء عدا الطين، الطين الذي خُلقنا منه وتعثرنا وتمرغنا فيه، الطين الذي لطّخنا به ملابسنا وبنينا به قلاعًا على شاطئ البحر، الطين الذي يحتضن دماءنا وأجسادنا وذكرياتنا وأحلامنا، فلسطين هي كوفية وعقال المختار، ودشداشة الفلاح، وبارودة الثائر، فلسطين هي حنظلة الذي سيظهر يومًا ما بوجهه ليعلن انتصار عشقه، وسيعلم الجميع أن كل الأدلة التي أدانته ما هي إلا دلائل تبرئه وتثبت حقه.
تعليقات
إرسال تعليق
نتشرف بتعليقاتكم على مجلتنا