القائمة الرئيسية

الصفحات

أخر الأخبار [LastPost]

شاهد بالفيديو| العالم الموسوعي وفلسفة العلم

شاهد بالفيديو|  العالم الموسوعي وفلسفة العلم

 العالم الموسوعي وفلسفة العلم 

"ولأن المياه الراكدة لا تتحرك من تلقاء نفسها، فلا بد من القاء ولو حجر صغير وسط المياه حتى تنتشر فيها أمواج الحياة"

هناك فارق كبير بين العالم والباحث والمفكر. فإذا كان كل عالم بباحث، فليس كل باحث بعالم. وإذا كان ليس ضروريا أن يكون المفكر بعالم، فإنه ولا بد وأن يكون العالم بمفكر. فالعالم قد يكون مفكرا وفيلسوفا أو حبيسا لمعمله وطلابه بين مدته العلمية الاكاديمية. والفارق بين العالم المفكر (العالم الموسوعي) والعالم التخصصي كبير. فالأول منتج للمعرفة ومطور لها، أما الثاني فهو منتج للعلم فقط دون المعرفة. والفارق بين العلم والمعرفة هائل، فالمعرفة هي نتاج العلم وتفسير أهميته.

 العالم الموسوعي وفلسفة العلم 

ولا يقوم بهذه المسئولية العلمية-المعرفية ولا يمتلك قدراتهـا إلا العالم الموسوعي، الذي يطور علمه أفقيا ورأسيًا بإضافة إبداعية برؤية واسعة وجلية ورسالة هادفة واعية وثرية، ثم ربط علمه بنواتج تخصصات العلوم الأخرى من خلال فلسفة هذه العلوم، وهنا يمكن تشبيه علم العالم الموسوعي بالبوتقة التي ذاب فيها الجزء بالكل فيطهي بـنار العقل الهادئة فتتصاعد من تلك البوتقة أبخرة المعرفة المبدعة والمتميزة.


ولكي تتحقق موسوعية العالم، يأتي دور فلسفة العلم التي لا بد من العالم الموسوعي أن يتحلى بها ويعمل بها في قراءاته، وتحليلاته، ومناقشاته، واضافاته. ففلسفة العلوم مثل الغِراء الذي يربط بقوة كل فروع العلوم المختلفة ليكون منها نسيجا قويا ذو أهمية ومعني، بحيث يمكن فهم المغزى منه على وجه العموم وفي تطبيقاته في الحياة على وجه الخصوص. فالوظيفة الكبرى لفلسفة العلوم هي تحويل الناتج العلمي إلى معرفة إنسانية يدرك مغزاها وأهميتها طالب العلم المتخصص وطالب المعرفة غير المتخصص. وهناك نهج آخر للتفكير في العلم يدعوا اليه علماء مثل ديفيد بلور وباري بارنزنهج يسمي «كيفية انشاء المعرفة" من منظور اجتماعي اجتماعي».

شاهد اهم موضوعات وشاهد الفيديو واحصل على هديتك الفورية

وكلمة الفلسفة نفسها مأخوذة من الكلمة اللاتينية Philosophia المكونة من مقطعين مقطع فيلو Philo ومعناها حب ومقطع Sophia ومعناها الحكمة، أي حب الحكمة. ولذلك كان يطلق علي الطبيب في العصور الأولي "حكيم" لأنه كان دارسا للفلسفة. واليونانيون هم أول من اشتهروا بدراسة وتعليم الفلسفة، حيث كانت تمثل لهم المادة الأساسية في التعليم والتعلم، وفهم الكون والإنسان والأشياء. وكذلك كانت مفردات وكتابات العلماء والكهنة في الحضارة المصرية القديمة، والهندية. والصينية، والفارسية، والبابلية تنطق بالحكمة وإن لم يطلق عليها آنذاك مصطلح فلسفة. وتشمل الأساليب الفلسفية الاستجواب والمناقشة النقدية والحجة المنطقية والعرض المنهجي.


وتطورت الفلسفة لدي اليونانيين (الإغريق) من مرحلة فلاسفة الطبيعة (دراسة المظاهر الكونية) إلي الفلسفة السفسطائية (الاهتمام بالإنسان عن أصل الكون وعدم وجود معايير مطلقة للخير والشر) في عهد الفيلسوف الإغريقي بروتاغوراس إلى فلسفة الحكمة التي أسسها سقراط (الاعتماد علي العقل في الحكم علي الأمور والتميز بين الصح والخطأ علي عكس السفسطائين) ثم المثالية لتلميذه أفلاطون (429-347 ق.م) الذي كان يؤمن بوجود عالم مثالي موازي للعالم المرئي المحسوس في الواقع في عهد إلى الفلسفة في عهد ارسطو والذي كان يؤمن علي عكس أفلاطون استخدم كلا من الحواس والعقل ولذلك من الممكن اعتبار مدرسته بداية فلسفة العلوم (المنهج العلمي) حيث كانت تعتمد على مشاهدة كل ما هو حوله من انسان وحيوان ونبات وجماد ثم إطلاق الأسئلة التي تحتاج إلي تفكير وادراك ومنطق وتحليل وربطها بعضها ببعض، حتى أن أرسطو كان يتعمد اطلاق هذه الأسئلة علي تلاميذه وهو يمشي كنوع من الالتحام بالبيئة المحيطة مصدر الأسئلة، حتي أطلق علي مدرسته المشاؤون.


وتطورت فلسفة العلوم عبر التاريخ حتى أصبحت فرعا من فروم الفلسفة وأصبح لكل علم فلسفته الخاصة به، مثل فلسفة التاريخ، فلسفة الطب، فلسفة البيولوجيا، الجامعات تمنح درجات الدكتوراه في فلسفة العلوم. وأنا شخصيا حصلت على الدكتوراه في فلسفة العلوم تخصص علم المناعة، ولكني يا للأسف، وكذلك كل زملائي، لم ندرس لا الفلسفة ولا فلسفة العلوم. ومع أني لم أفكر في هذا الأمر في حينه لانشغالي بطريقي الأكاديمي، إلا أنني أدركت حديثا فقط لما لفلسفة العلوم من أهمية قصوى في تشكيل التفكير العلمي وربط نتائج البحوث بعضها ببعض ثم بنتائج البحوث الأخرى، سواء في نفس التخصص أو في تخصصات أخري قريبة أو بعيدة عن التخصص الدقيق.


والبحث العلمي التجريبي لا يتم إجراؤه الا بقواعد علمية يطلق عليها المنهج العلمي، والذي يعتمد بدوره على وجود ملاحظة أو مشكلة أو فجوة يريد الباحث أن يصل إلى فكرة لحلها عن طريق طرح مجموعة من الأسئلة مطلوب الإجابة عليها، ثم افتراض بعض الحلول المنطقية، ثم اختبار تلك الفرضيات عمليا بأسلوب علمي منهجي، ثم تحليل النتائج وصياغتها، ثم في النهاية مناقشتها مناقشة علمية في ضوء نتائج الاخرين، ثم الخروج برؤية شخصية بناء على مجمل المناقشة. كل هذه الخطوات الطويلة تخرج في النهاية في صورة رسالة علمية (ماجستير أو دكتورة) او ورقة علمية تصاغ بأسلوب علمي رصين قبل ان يتم تحكيمه ونشره في الدوريات العلمية المتخصصة. وعادت ما تصاغ هذه الخطوات العلمية في البحث التجريبي إلي خمسة فصول هي: (1) المقدمة لفكرة وفرضية البحث، (2) المواد والأدوات والطرق المستخدمة في البحث، (3) نتائج البحث، (4) مناقشة النتائج، (5) المراجع التي تم الاعتماد عليها في البحث. وبالطبع يسبق كل ذلك عنوان للبحث يعبر عن فلسفة نتائج البحث وملخص قصير هو تلخيص للخمس مكونات السابقة، ولكن بطريقة علمية رصينة.


وإذا نظرنا إلى خطوات المنهج العلمي هذا، سنجد أن خطوة ملاحظة الفكرة وطرح الأسئلة والوصول إلي فرضية وصياغتها وشرحها (وكل ذلك عادة ما يكون في باب المقدمة) وكذلك مناقشتها يحتاج الي دراية الباحث بأساسيات فلسفة العلوم. ولكن خير وأقرب مثال علي أهمية فلسفة العلوم هو صياغة فصل المناقشة Discussion سواء في الرسائل الماجستير والدكتوراه أو الأبحاث العلمية، فهو من أكثر الفصول التي تحتاج الي تعلم فلسفة العلوم أثناء صياغته وإخراجه بالأسلوب العلمي المفترض من قبل الباحث. فإذا لم يكن الباحث قد درس فلسفة العلوم وتدرب عليها، فسيجد صعوبة بالغة في كتابة المناقشة والخروج منها بمغزى علمي واضح. وقد يفسر ذلك شكوى معظم المشتغلين بالبحث العلمي من صعوبة كتابة المناقشة سواء في الرسائل العلمية أو الأبحاث العلمية المنشورة وبضعف بناء هذا الجزء الفريد الذي يمثل خلاصة وأهمية نواتج البحث العلمي.


وإذا أضفنا عامل آخر مهم وهو عدم دراسة مناهج البحث العلمي وفلسفتها والغرض منها، فالأمر يصبح أحيانا كمن يبحث عن خياله في الظلام أو كمن يشتري شيئا باهظا ولا يعرف لماذا. وبالفعل هذا ما ألاحظه وألمسه وأعاني منه أشد المعاناة مع طلابي في بداية اشرافي عليهم في مشروع التخرج أو مشروع الماجستير أو الدكتوراه في الكليات العملية بما فيها العلوم والطب والصيدلة، والايمان، والزراعة، والهندسة. فهم لم يتعلموا أصول مناهج البحث العلمي وأنواعها والفرق بينها ووظيفة كل منهج وأساليب العمل به، ولم يتعلموا الفلسفة ولا فلسفة العلوم بأسلوب منهجي وتطبيقي. ويظهر ذلك جليا في عدم قدرتهم على صياغة المشكلة ولا الفرضية ولا الأهداف ولا منهج البحث العلمي الملائم. حتى أن معظم الباحثين في العلوم الأساسية والتطبيقية لا يدركون الفرق بين المنهج الاستقرائي والاستنباطي، ولا يعلم معظمهم أنهم يستخدمون في بحوثهم العلمية المنهج التجريبي، وليس الوصفي أو الوصفي التحليلي على سبيل المثال. وهذه معضلة كبري تجعل باحث العلوم التجريبية غير ملم بفلسفة بحوثه العلمية.


ولذلك فمن الصعوبة بمكان، من وجهة نظري المتواضعة، أن يتحول فيها الباحث أو حتى العالم إلى مرحلة العالم المفكر في بيئة علمية غير ملمة لا بأصول المنهج العلمي ولا بفلسفة العلوم، ناهيك بالطبع عن إمكانية تطوره إلى مرحلة العالم الموسوعي. ولذلك اعتقد أن معظم المشتغلين بالبحث العلمي هم من الباحثين وقليل هم من العلماء والندر من العلماء الموسوعيين. وقد يفسر ذلك أسباب غياب الباحثين العرب من ساحة الجوائز العالمية وخاصة جائزة نوبل في العلوم الأساسية، ومجال علم وظائف الأعضاء والطب.


وأعود للسؤال الأساسي الذي سألته في بداية مقالي، هل نحن حقا في القرن الواحد والعشرين الي العالم الموسوعي في حاجة كما كان عليه حال معظم العلماء في الحضارات الأولي، بما فيها الحضارة المصرية القديمة والصينية والبابلية والأشورية ثم الاغريقية والفارسية والهندية والرومانية مرورا بالعصر الإسلامي الذهبي للعلوم حتي القرن الحادي عشر، ثم خلال القرن السادس عشر إلي التاسع عشر عندما كان معظم العلماء موسوعيين ودارسي للفلسفة علي وجه العموم, وفلسفة العلوم ومناهج البحث العلمي علي وجه الخصوص, والتي أسسها البيروني وغيره ثم تم احيائها في عصر النهضة علي يد فرنسيس بيكون ثم إسحاق نيوتن وجاليليو.


الإجابة نعم، نحتاج إلى علماء موسوعيين لهم من الفكر والتخصص والابداع ما يمكنهم من انتاج معرفة حقيقية تضاف إلى التراث الإنساني للأجيال القادمة. وهذا لا ينفي وجود الكثير من العلماء الموسوعيين المصريين والعرب في عصرنا هذا، ولكنهم قلة، باجتهاد ذاتي بلا رعاية مؤسسية ممنهجة هدفها احتضان ورعاية ودعم العالم الموسوعي.


ومن أهم صفات العالم الموسوعي التبحر في تخصصه الدقيق والتمكن ليس فقط من مادته العلمية، ولكن أيضا في إدراك الفلسفة من ورائها في خدمة طلابه ومريديه والمجتمع ككل وقدرته على التواصل العلمي مع الآخر وخلق بيئة من الأسئلة المنطقية التي تولد أفكارًا جديدة غير مسبوقة. وقد تميزت العقود الماضية في مصر بالعديد من العلماء الموسوعيين الذين أثروا الحياة العلمية والفكرية والمعرفية في الوطن العربي. ولكن مازال الواجب والمسئولية تحتم أن يزداد نوع وكم هؤلاء العلماء الموسوعيين الذين يشتغلون بالعلم، والأدب، والفن، والفلسفة.


ولأن وجود العالم الموسوعي يعتمد على توفر قدرات فردية تتمتع بها عقول بعض العلماء، فانه من الصعب أن نطلب من كل العلماء أن يكونوا موسوعيين. ولكن ما يجب أن نطالب به هو أن يتحول الباحثون الي علماء، فهذا أضعف الايمان، بل مطلب اعتبره من المتطلبات الوظيفية لكل الباحثين المشتغلين في وظائف البحث العلمي بمرتبات من الدولة. بل ازيد على ذلك أن الباحث عندما يصبح عالم لا بد وان يتحول في مرحلة من عمري الأكاديمي إلى العالم مفكر، ليس اختيارا منه، ولكن حقا لمؤسسته وواجبا عليه. فالعالم ان لم يستطع أن يكون منتجا للمعرفة على الأقل من علومه فما هي أهمية بحوثه التي ينفق عليها وقت وميزانية ومجهود كبير من وقت وميزانية مؤسسته.


من اهم العوامل التي ساعدت على تقدم أوروبا علميا وصناعيا وفكريا في عصر النهضة هو وجود علماء موسوعيين توتروا عبر الأجيال واستطاعوا أن يؤسسوا علم حقيقي أدي إلى صناعه وتكنولوجيا ومعرفة وليس مجرد علم حبيس الإدراج. أنا النادي وبقوة بأن يصبح الباحثين علماء ثل مفكرين على درجة عالم موسوعي يبني في الأمة بناء استراتيجي من خلال انتاج معرفة وليس مجرد انتاج علوم. وان لم نفعل فسيظل دور الباحثين مجرد وظيفة روتينية بعيدة عن أي ابداع. بل أني أري أن يتم تغير القواعد المعمول بيها وتطويرها بحيث تلزم أساتذة الجامعات والمراكز البحثية بعد الستين لتقديم ما يثبت انهم منتجين للمعرفة وليس فقط لمجرد أبحاث ينفذها طلاب الدراسات العليا. وأري أيضا أن تسن قواعد جديدة تلزم أعضاء هيئة التدريس والباحثين أن يقدموا انتاج معرفي عن التقدم للترقي إلى درجة أستاذ مساعد أو أستاذ.


وانا على يقين ان فات كبيرة من السادة المشتغلين في البحث العلمي قادرين على انتاج معرفة وبتميز، ولكن الامر يحتاج إلي مبادرة قومية لتعزيز من هم علي الطريق ومن هم يعتبرون انتاج المعرفة ليس من مهامهم الوظيفية وتناسوا أن ذلك من صميم خدمة المجتمع والبيئة وهو المحور الثالث من مهام أساتذة الجامعات علي وجه الخصوص. وقد علمنا الماضي القريب كيف أن بعض القواعد التي سنتها وزارة التعليم العالي قد أتت ثمارها في تطوير تنافسية البحث العلمي في مصر في فترات قصيرة عندما التزم الجميع بها رغم اعتراضهم عليها في بداية الأمر.


ولأن المياه الراكدة لا تتحرك من تلقاء نفسها، فلا بد من القاء ولو حجر صغير وسط المياه حتى تنتشر أمواج الحياة فيها. وهذا ما أردته من هذا المقال.


تعليقات