طبّ الأسنان، حُلمٌ قال الله له: كُن، فكان!
أن ترى الطريق قبل بدايته، أن ترسم الخطة قبل آوانها، وأن تشعر بزوال ذلك كله من بين يديك، ثم يأذن الله من فوق سبع سماوات.. فيصير الحلم حقيقة!
طبّ الأسنان، حُلمٌ قال الله له: كُن، فكان!
هذا حلم الطفولة الأوّل، قد بدأتُ مشواره قبل بضعة أشهر، وها أنا في خضمّ إمتحاناتي النصفية الأولى.
قد تتساءل كيف لطفلٍ أن يرى حياته المهنية باكرا وهو مايزال في عمر السادسة؟!
مازلتُ أتذكّر جيّدا أوّل شرارةٍ أوقدت حبّ هذا التخصّص في أعماقي، وبقيتُ محتفظة بها حتى يومنا هذا، وإلى آخر يومٍ بإذن الله.
كان ذلك عندما قرّر خالي بسام _رحمه الله رحمة واسعة_ أن يقلع عن عادة التدخين. وبعد أن فعل..
أعدّ لنا بروجكت يشرح لنا فيه خطر التدخين والأضرار التي يُحدثها في جسم الشخص المُدخِّن.
أرفق صورا كثيرة مع الشرح، فكان يقرأ لنا ويشرح مستعينا بالصور لتوضيح الصورة في أذهاننا أكثر.
مازلتُ أتذكر حتى الآن من هذه الصور صورة الرئة التي صارت سوداء بالكامل، والمقارنة بينها وبين الرئة السليمة للشخص الذي لم يدخّن قط.
لكنّ صورة واحدة فقط أذهلتني في هذا العرض كله؛ صورة الأسنان..
كان قد أرفق لنا -رحمه الله وغفر له- صورا لأسنانٍ سليمة، وأخرى سوداء بسبب التأثير السلبي والمدمّر لهذه العادة السيئة.
بقيتُ مندهشة من رؤية هذه التراكيب، التي تبدو برأيي -سبحان من خلقها- لوحةً فنية غاية في الجمال.
أعتقد أن رؤية الأسنان _السليمة_ مصطفّة ومرتبة كحبات اللؤلؤ ، طغت على الموضوع بأكمله.
استمتعت بهذا العرض كثيرا، وعلى عكس الذي يُتوقّع من طفل في عُمرٍ صغيرة قد يؤثر اللعب على شيء مفيد، أو ربما بسبب براعة خالي، وطريقة سرده التشويقية كما عهدناه دائما، فقد كان _رحمه الله_ يملك شخصية تُجبر كل من رآها على الانتباه، وربما لأن العائلة كلها كانت مجتمعة تستمع وتستمتع في الوقت نفسه!
بعد إنتهاء العرض، قلتُ لأمي سأصبح طبيبة أسنان.
وبقيت هذه الصورة في ذهني، وكنتُ أكبر كلّ يوم وبلا شعور: أنا في داخلي سأصبح طبيبة أسنان!
كبرتُ، وكنت كلما سألني أحد: ماذا ستصبحين عندما تكبري؟ فأجيب في كل مرة: طبيبة أسنان بإذن الله.. وقد أذن الله، فلك الحمد ربي ولك الشكر على ما أنعمت عليّ.. إني أمام تدبيرك ربي وعظمتك صغير صغير. لا أقوى على التعبير فأسكت!
كانت شخصيّة طبيب الأسنان تجسّدني دون أن أشعر؛ فكنتُ أول شيء أراه في الشخص أمامي أسنانه، وكنت أكره رؤية الأسنان المتسخة وألوم في داخلي هذا الشخص المهمل! وتزعجني الأسنان غير المنتظمة..
كنت طبيب أسنان يمشي ويقيّم أسنان الآخرين، وكلما رأيتُ أسنان شخص تحتاج طبيب أسنان قلتُ في داخلي: "بس أكبر هزبّطله أسنانه".
الأسنان هي مرآة الوجه في نظر كل طبيب أسنان، والابتسامة الجذّابة هي ابتسامة تصحبها أسنان جذابة بنظافتها أولا، ثم بانتظامها وترتيبها الصحيح، والنظافة واصطفاف الأسنان عاملان مكملان لبعضهما لصنع ابتسامة جذّابة ساحرة!
الآن.. وبعد أن مررتُ بمحطاتٍ كثيرة، أبعدتني عن حلمي، وجعلتني أتخبط يمنة ويسرة لظنّي أني فقدته، وبعد أن شعرتُ بالحرمان الحقيقي من شيء كنت أضعه صوب عينيّ دائما وأسيّرُ الخطط لأجله، وبعد أن صنع الله المعجزات وقال لحلمي كُن، فكان..
وبعد أن رأيتُ لطف الله، وقساوة البشر،
أنا لن أجعل هذا الحلم يضيع، وسأستودعه الله في كل لحظة.
أنا خلقني الله على هذه الأرض لأعبده وأعمّرها؛ بأن أكون شخصا موحّدا، صالحا، معمّرا، وطبيب أسنان.
فيارب... أنت وحدك تعلم وعورة الطريق، وأنت وحدك المسهّل، وأنت وحدك من تفهمني، وتفهم هذا القلب الذي زرعته في صدري..
فلا تجعل حبّ هذا التخصص يبعدني عنك لحظة، واجعله مقرونا بحبك واستشعار لطفك وللزيادة في عبادتك وأعمال الخير.
أنتَ وحدك يا الله أرحم بي منّي..
وأنت اللطيف، الخبير، الّذي يقول للشيء
كُن، فيكون!
مجلة الأستاذة
تعليقات
إرسال تعليق
نتشرف بتعليقاتكم على مجلتنا